فراشة الربيع – الجزء الرابع والأخير
بقلم ذ: خالد بيلا

كان الصديقان "سعيد" و"جلال" يجتهدان في اعداد سيناريوهات "لعبد الرحيم"، من أجل إرجاع المظلة واستغلال الفرصة التي قد لا تتكرر، والتعرف على سر الفتاة، التي أثارت فضولهما لمدة، كما "عبد الرحيم". وكانا يرغبان بشدة في التعرف عليها عن طريق صديقهما.
في صباح يوم الاثنين، خرج "عبد الرحيم" باكرا من المنزل، مُسلّحا بنصائح وتوجيهات زميليه، ووقف في ملتقى شارعي "الورود والمعارف"، لينتظر خلف إحدى الأشجار قدوم "نادية". في كل لحظة كانت تمر، كان ذلك الاحساس في معدته يزداد أكثر فأكثر، كانت الثواني تمر كالدقائق، والدقائق كالساعات. حتى ظهرت "نادية" من بعيد... ارتجف "عبد الرحيم" عند رؤيتها، وجاءته رغبة في الهرب ونسيان القصة برمتها، لكنه فكر في أن الفرصة الذهبية قد لا تأتيه مرة أخرى، فيكون قد ضيع لحظة بات يخطط لها منذ ثلاث ليال طوال. بدأ صاحبنا المشي تأنيا تنفيذا لما جاء على لسان "سعيد"، حتى يجعل لقاءه "بنادية" كأنه صدفة غير مُعول عليها، وبالفعل كان كذلك، والتقيا في آخر زاوية من الشارع. لم تبد آثار الدهشة على "نادية" في حين صدم "عبد الرحيم" وهو المخطط للقاء:
- السلا... صباح الخير! لقد نسيت مظلتك المرة الفائتة... لقد تركتها قرب الطاولة.
أجابته "نادية" والثقة تبدو على ملامح وجهها:
- لا، هذه ليست مظلتي...!
اختلطت الكلمات على "عبد الرحيم"، وشعر بحرارة تغطي وجهه في سقيع الصباح البارد، فكل الألحان والكلمات التي نظمها له صاحباه كانت مبنية على مسألة نسيان المظلة؛ ثم ضحكت "نادية" كمن سمع دعابة طريفة، وسارا معا نحو المركز. كان موقف "عبد الرحيم" يتطلب منه ارتجالا، وسرعة بديهة، إلا أنهما لم تكونا من الصفات التي يشتهر بها. وبعد خطوات قليلة من المشي، سألته "نادية" بلكنة فرنسية لا يبدو عليها أنها مصطنعة:
- Sinon, les études ça va?
- عفوا؟ نعم... الحمد لله...
ما كانت ثقة "نادية" بنفسها، وردة فعلها الغير منتظرة، إلا أن تجعلا عبد الرحيم يزداد توترا، وبدأ يضغط المظلة الملعونة بيديه العرقانتين. وصلا إلى المركز ثم انطلق كل منهما عند جماعته، فجاء "سعيد" و"جلال" لتقصي ما حدث من صديقهما...
كان "عبد الرحيم" يشعر بحرج شديد، فمد المظلة الى "جلال" ليتحرى صاحبتها الفعلية، وولج الصف دون أن ينظر جهة "نادية".
اعتقد أن أمر "نادية" قد انتهى، وفرصة التعرف عليها قد ضاعت منه الى الأبد، بل أنه صار يرى نفسه أضحوكة بين الآخرين. لا بد أنها تسخر من سذاجته الآن. ماذا لو أخبرت صديقاتها بالأمر؟ إلا أن الرياح جرت بما اشتهت السفينة هذه المرة. فقد صارت الفتاة منذ ذاك اليوم، تحدثه من حين الى حين، بل وأحيانا تأتي نحوه وتبادره بالكلام في فترات الاستراحة ما بين الحصص. ويوما بعد يوم، صارا يشتركان طريق الذهاب الى المركز في الصباح، وطريق العودة منه في المساء، ما عدا بعض الأيام التي تجيء فيها سيارة رباعية الدفع، ضخمة ولا يظهر سائقها أو ركابها من زجاجها المدخن، لتقل "نادية". وصار "عبد الرحيم" متأنقا في هندامه، وبات يخصص وقتا لتمشيط شعره قبل الخروج من المنزل وأضحى لا يقضي الكثير من الوقت مع صاحبيه كما كان من قبل.
فطنة وذكاء "نادية" جعلاها منذ البداية تنتبه لحالة "عبد الرحيم" المادية والاجتماعية، فكانت تحاول مساعدته ما أمكن دون أن تشعره بالنقص أو الحرج. وكانت دائما تعينه وتشجعه للمثابرة في السعي نحو تحقيق حلمه. فقد كانت تعطيه نسخا عن المطبوعات والدروس التي يتجنب نسخها لغلاء ثمنها، مدعية أنها نسختها مرتين سهوا أو نسيانا. وأحيانا كثيرة كانت تأتيه بكوبونات ملونة؛ فكان لا يكاد يمر الأسبوع دون أن يحصل فيه "عبد الرحيم" على كوبونين أو ثلاث. هذا كوبون أزرق يمنحك وجبة مجانية مع مشروب بأحد المطاعم الفخمة وسط المدينة، وهذا كوبون أصفر يعطيك تخفيضا بنسبة 60% في أحد متاجر الألبسة الجاهزة، كوبونات ولوج المكتبات الكبرى، السينما، المتاجر، وحتى أماكن الترفيه والتسلية... غيرت قطع الورق الصغيرة هاته حياة بطلنا، وجعلته يتعرف على نمط عيش لم يكن ليحلم به يوما. لم يكن يسأل عن مصدرها، وكان يكتفي فقط بشكر "نادية" وأخذها.
لم يشعر "عبد الرحيم" بهكذا سخاء وعطاء من أي شخص آخر من قبل، ما عدا أمه "السعدية". وكانت يوما بعد يوم، تكبر "نادية" في نظره، وفي نفس الوقت يحوم غموض أكبر حول قصتها.
حنان، إيثار، ذكاء وروح دعابة، كل هذا مغلف بشخصية قوية وتواضع يفوق الوصف. صفات جعلت "عبد الرحيم" يتمنى لو أنه يقضي اليوم بأكمله بالمركز قرب "نادية"، حتى صار أغلب الطلبة يعيرون اهتماما لهذا الثنائي، خاصة أن "نادية" بلباسها الذي يساير آخر صيحات الموضة، والسيارة الفخمة التي تقلها، تجعل الجميع يفكر ألف مرة قبل أن يحادثها، رغم أنها كانت لا تبخل على أحد بالمساعدة في شتى الأمور، وكانت لا تترك للكبر مجالا ليلج قلبها. وحتى بالمنزل الذي اكتراه "عبد الرحيم" لم يكن الأمر ليختلف كثيرا عن المركز، "فجلال وسعيد" يعاتبانه كل يوم على تنكره لهما منذ تعرفه على "نادية"، إلا أنهما رغم ذلك يساعدانه في خلق سيناريوهات وأفكار جديدة كلما طلب منهما ذلك. فهو يجود عليهما من حين لآخر بما تبقى له من كوبونات "نادية" القيّمة.
وفي أحد الأيام المشمسة وعند عودة "عبد الرحيم" إلى المنزل بعد انتهاء يومه الدراسي مع "نادية"، فاجأته هذه الأخيرة بخبر تحمس له كل الحماس. فقد أخبرته أن أحد المعاهد يحتاج مدرسا، ليقوم بحصص دعم لتلاميذ الصف السادس، وأنها ترى أن "عبد الرحيم" تتوفر فيه الشروط اللازمة ليتم قبوله للمنصب. ثم طلبت منه تسجيل عنوان المعهد ورقم الهاتف. أخرج "عبد الرحيم" هاتفه الفنلندي الصغير باستحياء أمام نادية التي كانت يدها الرقيقة لا تستحكم هاتفها الكوري العريض. ثم تداركت الفتاة الموقف بسرعة وأعطته بطاقة أخرجتها من حقيبتها الجلدية، بها كل المعلومات التي سيحتاجها.
ذهب الأستاذ المستقبلي مساءً لتحري الأمر وزيارة المعهد، حيث لقي ترحيبا من سيدة الاستقبال هناك، فور الادلاء باسمه، وتم الاتفاق على الأجرة التي كانت جد مناسبة، وعلى مواقيت العمل، دون التشديد على أي شروط أخرى.
ما لم يكن يعلمه "عبد الرحيم" هو أن المعهد ملك لأخت "نادية"... "نادية الكافوري"، ابنة الحاج "عبد الواحد الكافوري"، رجل له وزن في مجال المال والأعمال بالمدينة، ويمتلك مجموعة من المعاهد والمدارس الخاصة. لم يكن الكثيرون يعلمون أصل ونسب "نادية"، سوى بعض الموظفين والأساتذة الذين قضوا سنوات لا بأس بها بالعمل بالمركز، وبضع طلاب من السكان الأصليين بالمدينة...
كان "عبد الرحيم" يبدأ عمله الجديد مساءً، لثلاثة أيام في الأسبوع، وقد بيّن على اتقان وجدية كانا محط اعجاب مسيّرة المعهد، وأثارا استحسان وثناء أولياء التلاميذ. وتحسن الوضع أكثر، بعد أن أطلق سراح المنحة الدراسية التي انتظرها الجميع لأشهر. اشترى "عبد الرحيم" بذلة جديدة وصار له الآن هاتفا ذكيا، وحاسوبا يساعده في أبحاثه وعروضه التربوية. وفي كل مرة كان يعود فيها للدوّار، كان يدخل على أمه محمّلا بأكياس من الأطعمة والحلوى. وازداد مدخوله بين المنحة والراتب الذي يتلقاه بالمعهد، واتسعت بؤرة أحلامه وباتت له أهداف أكبر وأعمق. وما كان له بعد تحقيق هذه الخطوة الكبيرة إلا الاعتراف بالامتنان والتقدير للشخص الذي كان له الدخل في نصف الراتب الذي يتقاضاه الآن ...الآنسة "نادية".
بدأ مع صاحبيه التفكير في طريقة لرد ولو جزء من الجميل للفتاة السخية، فاقترح "سعيد" الذي كعادته كان يبادر بالأفكار، أن يشتري لها هدية ويدعوها لأحد المقاهي العمومية ليسلمها إياها. أعجب الجميع بالفكرة وبالفعل خصص "عبد الرحيم" أحد الأيام التي لم يكن يعمل فيها بالمعهد، لشراء هدية تناسب "نادية"، وبعد بحث طويل استقر قراره على قنينة عطر فرنسي من النوع الجيد، رغم أنه مقلد، وأوصى البائع بلفها داخل ورق الهدايا ووضع بطاقة وزينة عليها، كما أكد عليه "سعيد" بالضبط. وفي اليوم التالي طلب "عبد الرحيم" من "نادية" أن يلتقي بها يوم الأحد، فوافقت وكان لها حق اختيار المكان والزمان، واللذان اختارتهما بحكمة كعادتها. اختارت الآنسة أحد المقاهي الهادئة والغير مكلفة في نفس الوقت، مراعاة "لعبد الرحيم"، وجعلت اللقاء على الساعة الرابعة بعد الزوال الى حين عودتها من حصة التمارين بالنادي الرياضي.
في صباح يوم الأحد، استيقظ بطلنا، وبعد تناول الفطور رتب أمتعته هو وصاحبيه وقاموا بتحضير ما يلزم من وجبات خفيفة ومشروبات من أجل قضاء الصباح بشاطئ المدينة، فمناسبة اليوم كبيرة وتستحق الاستمتاع والاحتفال مع الاصحاب.
لم يزر "عبد الرحيم" شاطئ البحر منذ أكثر من عشر سنوات، فآخر مرة كانت عندما نظمت إحدى الجمعيات رحلة لمدينة سياحية لفائدة أطفال دوّاره، وكان من بين المستفيدين آنذاك. ففصل الصيف كان يقضيه بأكمله في الرعي، والفصول الثلاثة الباقية في توفير لقمة العيش ومصاريف دراسته.
ما إن وصل الرفاق، وقاموا بوضع أمتعتهم فوق الرمال السمراء، حتى بادر "عبد الرحيم" بأخذ صورة للذكرى، كان يتوسط فيها صديقيه ويرتدي سروالا قصيرا برتقالي لونه، ونظارات شمسية، ثم شاركها على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي، فقد بات له الآن حسابا على "الفايسبوك"، وصبيب انترنت بالهاتف يستخدمه وقت يشاء.
قبل موعد اللقاء المنتظر بربع ساعة كانت "نادية" قد حجزت طاولة بالمقهى، وجلست تنتظر "عبد الرحيم". مر الوقت ببطء شديد وتجاوز الموعد بعشر دقائق، ولاحظت "نادية" صورة "عبد الرحيم" التي قام بمشاركتها صباحا، فازدادت حيرتها وتساءلت عن سبب تأخره. شعرت الفتاة بالملل بعد مرور نصف ساعة ولم يظهر للشاب المنتظر أثر، ثم وضعت هاتفها جانبا وبدأت تداعب نظرها بفراشات الربيع التي كانت تحوم حول أزهار حديقة المقهى. الفراشة... ذلك المخلوق الجميل ذو الجناحين الملونين اللذين يجسدان عظمة الخالق في ملكوته، إلا وأنها رغم تميّزهها ورقتها تبقى محسوبة على فصيلة الحشرات، وانجذابها نحو النور واللمعان الآتي من المجهول، يجعلها في أغلب الأحيان تحترق حول أشعة النار، فتضع حدا لمسيرتها في الحياة...
في نفس الوقت بشاطئ البحر كان الناس يتجمهرون على شكل حلقة وبعض رجال الأمن والإنقاذ في حالة استنفار. يبدو كأن أحد رواد الشاطئ قد غرق أثناء السباحة... إنه "عبد الرحيم"!! لقد قضي أثناء سباحته في البحر، وقد تم انتشال جثته لكن بعد فوات الأوان.
كانت ابتسامة باردة تشرق على محياه الذي صار أزرقا، كأنه يرقد في سلام، بعد أن عاش كل ما كان يحلم به منذ سنوات طوال... عاشه في أيام قليلة ثم غادر...
صدم المركز من هول الخبر الذي نزل كالصاعقة على الجميع، خاصة "نادية"، التي انقطعت عن التكوين لأسبوعين. وزار جل الطلبة بيت الفقيد بالدوار من أجل مواساة أمه المسكينة وتعزيتها، وكانت "نادية" صاحبة الفكرة، وتكلفت بجمع مساهمات الزملاء، وحتى الأساتذة من أجل التأبين، وكانت مساهماتها هي الأكبر.
- بعد سنة توفي "هشام" أخ "عبد الرحيم" في ظروف غامضة ببلاد الغربة.
- لم تلتحق "نادية" بمقر تعيينها، وأسست معهدا لتصميم وعرض الأزياء بتمويل من والدها.
- تزوج "جلال" بصاحبة المظلة الزهرية.
- ومازالت التعليقات تنهال على صورة "عبد الرحيم" بالفايسبوك إلى يومنا هذا: "صورة جميلة، بالصحة التبحيرة!"
انتهى بحمد الله.