مع حلول الدخول المدرسي كل سنة يكتفي العديد من الأساتذة في حصصهم التي تجمعهم بتلامذتهم لأول مرة بالتعرّف على أسمائهم أوالدردشة معهم حول بعض الأمور الهامشية في حين يبادر عدد اخر من الأساتذة الى استغلال هذه الحصص واستثمارها في إبرام عقد ديداكيكي مع جماعة القسم يقدمون فيه نظرة عن المادة المدرسة والطرق التي ستوظف لتبليغ المادة وأساليب التقويم التي ستنهج لقياس مستويات التلاميذ المعرفية والمهارية والوجدانية بالإضافة الى وضع الأسس اللازمة لبناء علاقة متينة قوامها الحوار والتفاهم وما إلى ذلك وكل هذا ايمانا منهم بقيمة ومكانة التعاقد وحرصا منهم على الانطلاق بخطة واضحة في عملهم تقربهم من الجودة والاتقان وتبعدهم عن العشوائية والارتجال ، هذا العقد الذي تحدث عنه علماء التربية قديما وحديثا وأسالوا فيه المداد موضحين أركانه و قمته ووظيفته في العملية التعليمية التعلمية وقبل كل ذلك معرفين إياه ومبينين المقصود به بتعاريف متعددة نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر تعريفا جاء في معجم علوم التربية مفاده أن العقد الديداكتيكي هو : اجراء بيداغوجي يقوم على اتفاق تعاقدي بين طرفين هما المدرس والتلميذ حول متطلبات المتعلم وأهداف التعليم وواجبات كل طرف وحقوقه ، وأهداف ومرامي عملية التعليم والتكوين .( معجم علوم التربية ، جماعة من المؤلفين ، ص:255، بتصرف) ، إن العقد بهذا المعنى الذي يفيد الاتفاق والذي يجب أن يكون بين طرفين في موضوع ما ولغاية ما إذا بحثنا عن جدوره في القران الكريم لا شك أننا سنجد له أصلا أصيلا وجدرا متجذرا ضاربا في القدم قبل أي عالم أو مُنظّر في علوم التربية والديداكتيك والبيداغوجيا ، ولهذا فان محاولة بسيطة منا ونحن نقلب آيات القران الكريم ونتمعن في سور الذكر الحكيم ستُجلّي لنا بوضوح حقيقة ما نقول ولذلك إذا أخدنا على سبيل المثال سورة الكهف فإننا سنجدها قد خصصت للعقد الديداكتيكي حيزا لا يستهان به على شكل آيات مختصرات مفيدات وضعت الأصبع مباشرة على أطراف العقد وموضوعة وشروطه ونتائج الاخلال بها وانعكاسات ذلك على اكتساب المعارف وتحصيلها أو تفويتها وتضييعها قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) .
لا شك أن هذه الآيات المباركات قد أخبرتنا قبل أربعة عشر قرنا بأول عقد ديداكيتيكي أُبرم - بعشرات القرون الأخرى قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم - بين سيدنا موسى والخضر عليهما السلام اللذان شكلا طرفا العقد الذي لعب فيه سيدنا موسى عليه السلام دور المتعلم المتلهف لطلب العلم والمعرفة بينما لعب الخضر عليه السلام الطرف الثاني دور المعلم الحكيم والناصح الأمين الذي صرح ببنود العقد بمجرد ما عبر سيدنا موسى عن رغبته في التعلم فقال عزوجل على لسانه ( فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فلم يكن لهذا المعلم إلا شرطا واحدا لحصول التعلمات وترسخها وهو ضرورة التريث وعدم التسرع في طرح الأسئلة قبل أوانها تفاديا لما من شأنه أن يتسبب في بعثرة الأفكار وتشتيتها وبالتالي تفويت المعارف وتضيعها ، وهو الشرط الذي وافق عليه سيدنا موسى عليه السلام دون تردد وبصم عليه بالعشرة (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) ، فأخد عليه السلام عهدا على نفسه بالصبر والطاعة وعدم التكلم رغبة منه في تحصيل المعرفة والتعلم ، وهنا لا بد أن نلتقط إشارة دقيقة تكون سببا في انجاح أي تعاقد بين الأستاذ وتلامذة فصله وهي ضرورة اشراكهم في التعاقد واعطائهم حرية الاختيار وجعلهم يحسون بقيمة المسؤولية لا الاكتفاء بسرد البنود عليهم سردا وفرضها عليهم فرضا فإن هذا لا يجدي نفعا مهما كان التعاقد .
وبما أن كل ما يتمنى المرء لا يدركه والرياح تجري بما لا تشتهي السفن فإن سيدنا موسى لم يستطع أن يصمد في رحلته التعلمية لا للخلل يعتريه ( حشاه) ولكن لجسامة ما رأى بعينيه من تصرفات لم يحط بها خبرا و لم يستوعبها عقله (خرق السفينة ، قتل الغلام ، بناء الجدار) فاعتبرها منكرات وجب دفعها واستفسار المعلم عن حقيقتها دون تردد ناسيا بذلك ما قطع على نفسه من التحلي بالصبر وعدم التسرع فكان ذلك مؤذنا بخرق التعاقد نظرا للإخلال بالبند الرئيس فيه الشيء الذي دفع المعلم الخضر الى إيقاف الرحلة التعلمية بعد إمهاله لسيدنا موسى ثلاث مرات لتدارك الموقف ( قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) فتوقفت الرحلة ولم يتعلم سيدنا موسى من معلمه إلا الشيء القليل ولذلك عندما نزل الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْ صَبَرَ لَرَأَى مِنْ صَاحِبِهِ الْعَجَبَ( سنن ابي داوود) ، الشيء الذي يبين لنا بوضوح قيمة العقد في كل عملية تعليمية تعلمية ومدى المكانة التي حضي بها بين الأنبياء المؤيدين بالوحي والتوجيهات الالهية فكيف بالأستاذ العادي المؤيد فقط ببعض التوجيهات التربوية والمذكرات الوزارية وفي نفس الوقت يهمل التعاقد ولا يعطيه أدنى قيمة ، هذا و إن اخر ما يمكن أن أختم به هذه الأسطر هو التساؤل التالي :
إذا كان الإخلال ببند واحد في التعاقد من أحد الأطراف قد يتسبب في ضياع التعلمات وتوقف العملية برمتها تماما كما حصل بين الخضر وموسى عليهما السلام فكيف بمن لا يتعاقد مع متعلميه أصلا ولا يسطر معهم بندا ؟
عبد الحق التويول .